اللهم فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلماً وألحقني بالصالحين

دكان القلوب


تفتح الحوانيت أبوابها طلبًا للرزق، يتعهدها أصحابها باهتمام فائق، حسب درجتهم في الخبرة والثَّراء،و الثقافة والعادات، والكل في هذه اللوحة مختلفةِ الدرجات والمناظر والظواهر، يَجْمعهم معنًى واحد: الإنسانية، كما جمعهم هدفٌ واحد، وهو السعي: حركة الحياة لتلبية مطالب الإنسان؛ لتحقيق ما يكفي لوجوده وإثبات ذاته وإنسانيته.

وتَظهر درجة المؤمن في هذه اللوحة المألوفة بصورة متفرِّدة نفيسة؛ فهو يرجو الحلال فوق الرِّبح، والعفافَ فوق الغنى، والسَّماحة فوق البيع.
يقضي نَهاره مرتبًا لحاله، مهتمًّا بشأنه، مُخلصًا في عمله، فإذا ما جنَّ الليل وفرغ من حساب دكانه، وسَمَرِ أقرانه، وواجبِ أهله وجيرانه، خلا إلى نفسه، وفتح دكانًا من نوعٍ آخر، يجمع فيه ما انطرح من نفسه بسبب معاملات الناس وجهد اليوم، ويضرب فيه حسناتِه بأضعافها بين يدَيْ ربِّ العالمين، ويطرح فيه ما شاب قلْبَه من دنسٍ؛ من غفلة، أو غضبة، أو حسرة.
دكانه الخاص: يثبت فيه إنسانيَّتَه، ويَسمو فيه بمشاعره، يسرج قنديل النُّور في حنايا نفسه، يبدأ بالطهارة والنية، فالتَّكبير: "الله أكبر"، ويرتِّل ما شاء الله له أن يرتِّل، فتحضر له روحه من ذاك الجُبِّ العميق الذي ابتلعها خلال ساعات النَّهار، ويا لَها من لحظة حين يستشعرها بين جنباته: روحه، ساعتَها ينال النصيبَ الأوفر، والحظَّ الأمثل من الإنسانية، ويستشعر السَّكينة، ويبدأ في الأنس بربِّه، وتنتفي عنه مشاعر الرهق التي استشعرها خلال اليوم، ويتجافى عن أعضائه التعب، فقد ابتدأ سريان مفعول (كبسولة) الذِّكر الحكيم، فحصل له استرخاءٌ مبين، وركعة بعد ركعة، وسجدة بعد سجدة، يستفتح من أبواب الرحمة والعلم ما لو علمها الْمُلوك لَهجروا مُلْكهم، ولو علمها المحبُّون لانصرفوا بحبهم، ولضَنُّوا بمشاعرهم أن يصرفوا ذرة منها لغير القويِّ ملْكُه، المنيعِ حِصْنُه، المتينِ حبْلُه، العزيزِ جارُه، الحيِّ أبدًا - سبحانه.
﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ؛  ليل نهار، سرًّا وجهرًا، قولاً وفعلاً، يصبرون عليه - تنفيذ ما جاء فيه - بالنهار، ويأنسون به في الليل، يَرْحمون به الضعيف، ويُحاسبون به الظالم، يستفتحون به أبواب الرزق كلَّها: في العلوم والتجارة، في الطب والإدارة...
لا عجب إذًا أن تكون بدايات القرآن ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا؛ لأنك إذا قُمْتَ الليل ستتعلم كيف تقضي في النهار بِحُكم الله، وكيف تصبر في النهار على تنفيذ شرعة الله، وكيف تترفع عما في أيدي الناس - جميعه - لأنك تثق بِما عند الله،
وكيف تحبُّ الناس - جميعهم - لأنَّهم خلق من خلق الله؟
 وإنما يصبح ميزانك: الحب في الله، والبغض فيه كذلك.
وإن كان الأمر بقيام الليل خاصًّا بِمُحمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - فاجعل لك من سُنَّة حبيبك نصيبًا، فإن شئت أن تتخذ لك دكانًا فتكونَ من الصالحين الذين يجتمعون بظهر الغيب، وينفع بعضهم بعضًا: "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحينفاهجر المعاصي نهارًا، وجافِ المضاجع واترك الدِّثار ليلاً، واتخذ لك من أسباب المعونة ما يحملك على أمرك: غضًّا للبَصر نَهارًا، طعامًا خفيفًا مساءً، حفظًا للِّسان لوجه الرحمن، صاحبًا أو رفيقًا أو زوجًا يشدُّ من أزرك، ويعضد حالك، فإن نسيتَ ذكَّرَك، وإن مللْتَ آنسك.

بل وتمكينٍ في الدين والدنيا جميعًا،
 يقول - صلَّى الله عليه وسلَّم : ((كلُّ الناس يغدو؛ فبائِعٌ نفسَه، فمُعتقها، أو موبِقها)).
اغدُ على دكانك، فإن أنت فعلتَ، فأبشرْ بسَعة رزقٍ، وانفراجة صدر، وإعتاق روح، ومكانةٍ بين الأنام، وهيبةٍ كما العظام، وحفظٍ للمال والولد جميعًا،

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق